روما - إنّ قدرة العالم على توفير الغذاء لعدد متنامٍ من السكان مهدّدة بالخطر، ومن دون تغيير اجتماعي واقتصادي وبيئي أوسع نطاقًا، سيتعذّر التوصل إلى نظم زراعية وغذائية مستدامة، وفقًا لتقرير جديد صدر اليوم عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (المنظمة).
ويقوم التقرير بعنوان مستقبل الأغذية والزراعة - دوافع التحوّل ومحرّكاته بتحليل الدوافع الحالية والناشئة للنظم الزراعية والغذائية واتجاهاتها الممكنة في المستقبل. كما يحدّد التقرير القضايا المطروحة والتهديدات والمشاكل التي ستؤثر على استهلاك الأغذية في المستقبل وعلى الإنتاج الزراعي والغذائي.
ويحثّ التقرير صانعي القرارات على التفكير بما يتجاوز الاحتياجات في الأجل القصير، محذرًا من أن غياب الرؤية، واعتماد النُهج المجزّأة و"الحلول السريعة" سوف يأتي بكلفة باهظة للجميع.
ويضيف التقرير أنه من الملحّ إيجاد ذهنية جديدة تُسند الأولوية للأهداف الطويلة الأجل، والاستدامة والقدرة على الصمود.
ويعمد كذلك التقرير إلى تحديد "الدوافع" الرئيسية لتحويل النظم الزراعية والغذائية التي يمكن أن تساعد في تحقيق الأمن الغذائي، والتغذية، وحفظ الموارد الطبيعية، وإعادة تأهيل النظم الإيكولوجية والتخفيف من وطأة تغير المناخ.
ويشير التقرير إلى أن الاتجاهات مثل زيادة عدد السكان والتوسع الحضري، وعدم استقرار الاقتصاد الكلّي، والفقر وأوجه عدم المساواة، والتوترات الجيوسياسية والنزاعات، والمنافسة الشرسة على الموارد الطبيعية، وتغيّر المناخ، تلحق الضرر بالنظم الاجتماعية والاقتصادية وتدمّر النظم البيئية.
وقال المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة السيد شو دونيو خلال حدث إطلاق التقرير: "إنّ العديد من أهداف التنمية المستدامة ليست على المسار الصحيح ولن تتحقق إلاّ إذا تحوّلت النظم الزراعية والغذائية على نحو ملائم بحيث تصبح قادرة على تحمّل الشدائد العالمية القائمة التي تقوّض الأمن الغذائي والتغذية بفعل تنامي أوجه عدم المساواة البنيوية والإقليمية أيضًا".
الدوافع الكامنة وراء أداء النظم الزراعية والغذائية
يحدّد التقرير 18 قوة اجتماعية واقتصادية وبيئية مترابطة، تُسمّى الدوافع، ويُجري تحليلًا لكيفية تفاعلها مع بعضها البعض وطريقة تحديدها للأنشطة المختلفة التي تقوم داخل النظم الزراعية والغذائية، بما في ذلك الزراعة وتجهيز الأغذية واستهلاكها.
ويمثل الفقر وأوجه عدم المساواة، وعدم الاستقرار الجيوسياسي، وندرة الموارد وتدهورها، وتغيّر المناخ بعضًا من الدوافع الرئيسية، كما أن طريقة إدارتها ستحدّد مستقبل الأغذية.
ويحذّر التقرير من أنه في حال بقيت النظم الزراعية والغذائية ماضية على مسارها الحالي، تشير الأدلّة إلى مستقبل يطبعه انعدام الأمن الغذائي المستمر، وتدهور الموارد والنمو الاقتصادي غير المستدام.
أربعة سناريوهات مستقبلية
يعرض التقرير أربعة سيناريوهات مستقبلية للنظم الزراعية والغذائية تؤدي إلى نتائج مختلفة من حيث الأمن الغذائي والتغذية والاستدامة الإجمالية: سيناريو "المزيد من الإجراءات ذاتها"، الذي يرتأي مواصلة التخبط من خلال الاستجابة إلى الأحداث والأزمات؛ وسيناريو "الأوضاع المستقبلية المكيّفة"، حيث تحصل التحركات نحو قيام نظم زراعية وغذائية مستدامة بوتيرة بطيئة وغير أكيدة؛ وسيناريو "السباق نحو القاع"، الذي يصف عالمًا في أسوأ صورة له؛ وسيناريو "المقايضات من أجل تحقيق الاستدامة"، حيث تتم مقايضة نمو إجمالي الناتج المحلي في الأجل القصير بغية تحقيق الشمول في النظم الزراعية والغذائية، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وقدرتها على الصمود واستدامتها.
وقال السيد شو دونيو: "إنّ عملية الاستشراف الاستراتيجي تساعدنا جميعًا، والحكومات بشكل خاص، من خلال تحليل الاتجاهات في الأجلين القصير والطويل، والاطّلاع على سيناريوهات مستقبلية بديلة ممكنة. وإذا ما نظرنا إلى أسوأ السيناريوهات، يمكننا استباق المسارات السلبية الممكنة واتخاذ التدابير اللازمة لتلافيها".
محرّكات التحوّل
بهدف زيادة فرص تهيئة مستقبل أكثر استدامة وقدرة على الصمود للنظم الزراعية والغذائية، يشدّد التقرير على الحاجة الملحّة لتغيير المسار. وتحقيقًا لهذا الهدف، يقترح أربعة "محرّكات رئيسية للتحوّل" - تحسين الحوكمة، والمستهلكون الحرجون والمستنيرون، والدخل الأفضل وتوزيع الثروة والتكنولوجيات والنُهُج المبتكرة.
ويشير التقرير إلى أن "عددًا قليلًا جدًا من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، وربما أيًا منها، لديه إمكانية تحقيق القوة المهيمنة أو الوصول إلى حالة الإمبراطوريات التي استخدمتها بلدان عديدة مرتفعة الدخل بما يفيد رفاهها وسلامتها. كما أن أنماط التنمية العالمية المستقبلية تعتمد على حلّ المسائل الرئيسية، أي المؤسسات التي توفّر الحلول لتشاطر "المصالح العالمية"؛ وتوزيع القوة السياسية والثروة؛ وتسوية أوجه عدم المساواة الكبيرة الموجودة في الاقتصادات الراهنة"
ويقترح التقرير أنه، في سيناريو يختار فيه العالم مستقبلًا أكثر استدامة، سيتم التصدّي للتحديات العالمية "من خلال حوكمة أكثر فعالية تكون تشاركية وجديدة ومتعددة المستويات"، حيث تتفاعل الحكومات والمستهلكون ومؤسسات الأعمال والأوساط الأكاديمية مع وظائف مختلفة إنما مع أهداف تتلاقى مع بعضها إجمالًا.
وقال المدير العام السيد شو دونيو: "بهدف ضمان الحصول على أغذية كافية ومغذية، وفرص عمل لائقة، وفرص لكسب الدخل، وخدمات بيئية، وسواها الكثير، يتوجّب علينا أن نكون أكثر ذكاءً في تحديد المحركات اللازمة لتسريع عجلة العمليات التحوّلية".
دور المستهلكين والاستثمارات
سوف يتعين على المستهلكين التحلي بمسؤولية أكبر كونهم "يمتلكون قوة إطلاق العمليات التحوّلية من خلال تحويل الطلب نحو منتجات مغذية وأكثر مسؤولية من الناحيتين البيئية والاجتماعية".
وتحقيقًا لدخل أفضل وتوزيع أفضل للثروات، يحثّ التقرير على القيام بمزيد من الاستثمارات في النتائج الاجتماعية، وعلى زيادة رأس المال الاجتماعي لإخراج الناس من دوّامة الفقر- وليس فقط من براثن الجوع. ويوصي أيضًا بأن تكون البلدان الأغنى مستعدةً لتحمّل جزء أكبر من تكاليف هذا التحوّل.
وسوف يلقى هذا التحوّل الدعم لمواصلة وضع التكنولوجيات والنهج المبتكرة التي يقترح واضعو هذا التقرير أن تسند الأولوية بشأنها للبحوث العلمية والتطوير، ويشدّدون على ضرورة أن تكون هذه التطوّرات متاحة للمجموعات السكانية الأضعف.
طريق صعب أمامنا
غير أن هذا النوع من التحوّل الشامل سوف يكون مكلفًا، وسوف تقوم مقايضات سيتعيّن على الحكومات، وصانعي السياسات والمستهلكين معالجتها والموازنة بينها، والتصدّي في الوقت ذاته لمقاومة تحوّل النموذج الفكري.
كما يتوجب على البلدان والمجموعات الاجتماعية القادرة على تحمّل التكاليف الناجمة عن إجراء التحوّلات الضرورية أن توفّر الإغاثة للبلدان والمجموعات الاجتماعية المتضررة أصلًا من الآثار السلبية للتنمية غير المستدامة.
وقال المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة في مقدّمة التقرير: "سوف يتعيّن علينا القيام بخيارات للمقايضة بين الأهداف المتناقضة، مثل زيادة الاستهلاك المباشر والرفاه مقابل الاستثمار لضمان مستقبل أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية، أو اتخاذ القرار بشأن كيفية تحميل تكاليف التنمية غير المستدامة للمجتمعات الأكثر ثراءً لصالح المجتمعات الأفقر".
لم يفت الأوان بعد، إنما من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة
سوف يتوجّب بحلول عام 2050 تأمين الغذاء لعشرة مليارات شخص في العالم، وهذا سيكون تحديًا غير مسبوق في ظلّ غياب محاولات فعلية لعكس الاتجاهات الحالية. ويشير التقرير إلى أن العالم "خارج المسار إلى حدّ كبير" لجهة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك المقاصد الخاصة بالإنتاج الزراعي والغذائي. لكن في حين ما زالت الأسباب التي تدعو إلى التشاؤم قائمة، يُظهر التقرير تفاؤلًا حذرًا إزاء إمكانية إحداث تغيير مستدام في الأجل الطويل إذا عمد كل من الحكومات، والمستهلكين، ومؤسسات الأعمال، والأوساط الأكاديمية والأسرة الدولية إلى التحرّك الآن.